Culture Magazine Monday  28/05/2007 G Issue 200
فضاءات
الأثنين 11 ,جمادى الاولى 1428   العدد  200
 

كالدويل في ذكراه العشرين
ثمانون عاماً في تعلّم الكتابة
علي زعله

 

 

(كل روائي احترف الكتابة واعتبرها مصدر رزقه، قد يسأل نفسه في وقت ما على الأرجح، كيف حدث وأصبح كاتبا وليس ممثلا أو مصرفيا أو بائع أحذية؟! أدركت وأنا في الثانية أو الثالثة والعشرين أنني أريد الكتابة أكثر من أي شيء آخر، ولم يمرّ وقت طويل حتى عقدت العزم بكل ثقة على شق طريقي ككاتب وعدم الالتفات لأية انعطافات فرعية تحرفني عن الطريق حتى نهاية العمر). وضع لنفسه هدفا أول يقضي بأن يصبح روائيا ينشر قصصه خلال عشر سنوات، ومع علمه أن الأماني والرغبات ليست كافية لتحقيق الإنجازات، فقد أكسب نفسه العزيمة الضرورية والتصميم العنيد، بالرغم من أن القدرة ظلت تراوغه باستمرار! بعدما يقرب من عشر سنوات كان اسم الأمريكي الجورجي أرسكين كالدويل بالكاد معروفا على نطاق محدود في المجلات القصصية المتخصصة في مناطق متفرقة من الولايات المتحدة.

خلال السنوات العشر هذه امتهن كالدويل مهنا متعددة، فقط ليكسب قوته بما يساعده على مواصلة الركض وراء حلمه الذي اختاره ليكون قدره في الحياة، عمل سائقا للشاحنات وطباخا وعاملا في معصرة لزيت بذور القطن... استهوته الصحافة في وقت مبكر من عمره، عمل في تجربته الصحافية الأولى مع رئيس تحرير أكل حقوقه المادية بحجة أن كالدويل قد تعلم لديه أصول المهنة، مهنة الصحافة، وكان جوابه حين طالب الفتى بأجره (هل توقعت مني يا كالدويل أن أدفع لك مالا مقابل تعلّم المصلحة؟ من الأفضل لك يا بنيّ أن تسرع عائدا إلى المعصرة وتحاول الحصول على وظيفتك القديمة إذا كانت النقود هي كل ما تسعى إليه في هذه الحياة)!!

تنقّله في عدة حرف وأعمال أكسبه خبرة حياتية حقيقية وثرية، كان ذلك تصديقا لإحساسه المبكر بأن الحياة ستكون معلمه الدائم والوحيد، انصرف عن الجامعة التي التحق بها وتركها عدة مرات رغم أنه في فترة من الفترات أغرم بالحرية النسبية التي توفرها الحياة الجامعية، لكن له روحا لا تهدأ حين تستقر في بقعة مكانية واحدة لفترة زمنية طويلة بعض الشيء، كان أرسكين مولعا بالتنقل والترحال منذ سنوات شبابه الأولى؛ إذ كان يخرج من ضجر الجامعة بقضاء عطلة نهاية الأسبوع في مكان آخر بعيد عن مدينة ديو ويست، حيث تقع الكلية، وكانت أرخص وسيلة لفعل ذلك هي أن يتعلق بقطار الشحن الذي يعبر المنطقة في أمسيات الجمعة والسبت والسفر فيه إلى أي مكان يصله في الصباح ثم يعود إلى ديو ويست على متن قطار الشحن الذي يرجع ليل الأحد أو صباح الاثنين!!

غادر جامعة جورجيا ليعمل في الصحافة التي لم يكن أبدا يطمح إلى أن تكون مهنته في الحياة، (لكن الصحافة تعني الكتابة، وهذا ما أردت أن أتعلم منه). يقول كالدويل. تعلم من أعماله البسيطة في الصحافة وتحرير الأخبار، وربما كان أبرز ما أفاد منه هو عمله في كتابة مراجعات الكتب مع كورا هاريس في صحيفة تشارلوت أوبزرفر، لم يكن يتلقى مالا نظير ذلك، فقط أخبرته المحررة هاريس أن بإمكانه الاحتفاظ بالكتب التي كانت ترسلها إليه بالبريد! تكدّست لديه مئات الكتب (افتتح بها مكتبة لبيع الكتاب المستعملة) تنقل بين عدة صحف وتعرض لعدة ضغوط لكنه كان يواجهها بكثير من الصبر والتحمل لرغبته في كسب العيش والبقاء قريبا من مهنة الكتابة مهما كلفه الأمر، هو الذي عاهد نفسه على تكريس وقته بشكل كامل وحصري لكتابة الروايات والقصص القصيرة (وعاهدت نفسي على اعتبار أية مهنة أعمل بها باستثناء الكتابة مهنة مؤقتة لا يبتغى منها سوى الحصول على لقمة العيش والمسكن والملبس).

مرت تلك الفترات وأرسكين صارم مع نفسه ومنتظم في كتابة القصص، أنجز أربعين أو خمسين قصة قصيرة، بعث كل واحدة منها إلى مجلة أو صحيفة لكن أيا منها لم تنشر! يقول (لكن القصص مهما أعدت كتابتها وتنقيحها كانت تعاد إلي دائما ودون أي تعليق في العادة وبسرعة ثابتة، كما تلقيت طبعا عددا كبيرا من القصاصات التي ترفض إنتاجي... وأما عزائي الوحيد خلال العديد من السنين فكان حجم الحريق الذي سأشعله بها حين تقبل إحدى المجلات قصتي الأولى وتنشرها على صفحاتها)!

حكى أرسكين كالدويل كل تلك الصعوبات التي مرت في حياته خلال كتابه (call it experience) المنشور عام 1951م (صدر عن دار المدى قبل أشهر بترجمة معين الإمام) يحكي فيه طريقته في تعلم الكتابة خلال ثلاثين عاما مرَّ خلالها من معصرة زيت بذور القطن إلى استوديوهات هوليوود كاتبا لسيناريو أفلام عديدة إلى مسارح برودواي بروايته الشهيرة طريق التبغ التي حولت إلى مسرحية ظلت تعرض مدة تزيد على سبع سنوات، كما لم يسبق لمسرحية أخرى في تاريخ برودواي. كتب كالدويل مائة وخمسين قصة وخمسا وعشرين رواية واثني عشر كتابا غير قصصي، مبيعات كتبه بلغت ثمانين مليون نسخة بلغات مختلفة، (أرض الله الصغيرة) روايتة الأشهر، طبعت وحدها أربعين مليون نسخة حول العالم، حوّلت ثلاثة من أعماله الروائية أفلاما سينمائية في هوليوود.

أحصى وليام فوكنر ذات يوم الكتّاب الأهم في تاريخ الأدب الأمريكي المعاصر، فذكر أربعة كُتّاب بالإضافة إليه هو (فوكنر) وهم توماس وولف وإرنست هيمنغواي ودوس باسوس وإرسكين كالدويل. كتب كالدويل عن الفقر والجوع والعبودية في الجنوب الأمريكي، اتهم بالشيوعية جراء ذلك، سئل ذات يوم: أنت تكتب كثيرا عن الفقراء. لِمَ لا تكتب عن الأشياء الممتعة في الحياة؟ أجاب: الأشياء الممتعة في الحياة أقل عددا من تلك المتعبة والكريهة والموجعة!

يعتبر كالدويل أستاذا عبقريا في فن الإصرار والقتال من أجل تحقيق أهدافه في الحياة، في الانضباط في ممارسة الكتابة والالتزام ببرنامجه الكتابي يوما بعد يوم وسنة بعد سنة، يتحدث كثيرا عن التمرين وتعلم الكتابة بممارسة الكتابة نفسها، من خلال البحث الدائم عن طرق أفضل للكتابة، يؤمن بأن الرغبة الجارفة في الكتابة هي حالة ذهنية تعدّ بدرجة كثافتها وحدّتها مقياسا للنجاح والفشل في هذا المشروع الكتابي، (من المرجح أن جميع الكُتاب يملكون قدرة فطرية على الكتابة إلى حد ما في البداية، إلا أن من المشكوك فيه أن يصل كاتب إلى هذه الدرجة من التميز دون أن يكون قد تلقى تعليما أو تدريبا، طويلا أو قصيرا، لكن استمر بالتأكيد لفترة من الزمن، هذه الفترة من تعلم كتابة القصة إضافة إلى الحالة الذهنية تجتذب إلى السطح أية موهبة دفينة يمتلكها (أي الكاتب)، أما نفاد الصبر وعدم كفاية التدريب أو عدم الاستعداد للجلوس أمام الآلة الكاتبة يوما إثر يوم وسنة بعد سنة فتشكل جميعا عوامل تلجم أشد الحالات الذهنية حدة وكثافة وتركيزا).

كالدويل الذي رحل عن عالمنا قبل عشرين سنة من الآن لا يقرأ كثيرا من الكتب (ربما ست روايات في السنة) ويقول إنه قرر الانتماء إلى صنف الكتّاب من الناس، إنه يعمل في الكتابة من التاسعة صباحا حتى الخامسة مساء، ستة أيام في الأسبوع وعشرة أشهر في السنة، اقتنى كالدويل عدة نسخ من معجم الويبستر ويقرأ فيه يوميا ويستمتع بتلك العادة اليومية، تماما كما هي رياضة محمود درويش اليومية مع لسان العرب!!

جازان azaalah@gmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة